الخميس، 23 ديسمبر 2010

النص البصري المهمل





ملحق ثقافي
10/8/2010
م
د.محمود شاهين:الرسوم التوضيحيّة أو «الموتيف» جنس من أجناس الرسم والتصوير المكرس لتوضيح وتأكيد وإبراز، مضمون قصيدة، أو قصة،


أو مقالة أدبيّة أو علميّة. على هذا الأساس، هو نص بصري، مواكب ومتماهٍ مع النص المكتوب، أو هكذا يجب أن يكون، من أجل هذا، يجب أن تتوفر في المشتغلين على هذا النوع من الفن التشكيلي المنضوي ضمن أسرة فنون الكتاب، ومؤخراً ضمن ما يُعرف بفنون الإخراج الصحفي الذي يطول المجلات والصحف والنشرات الإعلاميّة والإعلانيّة المتنوعة، جملة من الخصائص والمقومات، أولها وأهمها، قدرتهم على تذوق المادة الصحفيّة المراد دعمها وتوضيحها وإبراز مضمونها «أو تجميلها وتقديمها بشكل مُغرٍ للقارئ» بالرسوم والصور المناسبة، والتفاعل معها، وثانيها تملكهم ناصية الرسم، وخبرتهم بتقاناته، ذلك لأن رسام الموتيف لا يؤدي مهمة تزيينيّة أو تجميليّة بحتة، وإنما يقوم بتحويل النص المكتوب إلى نص بصري مؤدى بالرسم واللون والإحالات الشكليّة المختلفة التي بات معظمها، يُشكّل مصطلحات عالميّة متفق عليها، واضحة المعاني والدلالات، لدى المتلقي.‏
في هذا السياق، يمكن اعتبار المنمنمات الإسلاميّة ضرباً من «الموتيف» لأن غالبيتها جاءت كرسوم توضيحيّة، في العديد من كتب التاريخ والأدب ومن أشهرها «مقامات الحريري» التي وضع رسومها شيخ المصورين العرب «الواسطي».‏

قيمة مواكبة‏
على هذا الأساس يجب أن تحمل الرسوم التوضيحيّة «الموتيفات» حساسية لغة النص المكتوب وما تحمل حروفها وكلماتها من مضامين ودلالات، أو إشارات عميقة لمعانيها، قادرة على وضع القارئ في جوها العام، وتالياً جذبه لقراءة المادة، والإبحار في ما ترمي إليه، ما يحتم على رسام الموتيف إنجاز نص بصري لا يقل قيمة فنيّة وتعبيريّة عن النص المكتوب، وللفوز بذلك لا بد له من التعمق بقراءة هذا النص، والتقاط مراميه وأهدافه وأفكاره الحقيقيّة، ومقاربة حساسيّة اللغة التي صيغ بها، ومن ثم قيامه بترجمة النص المكتوب إلى نص بصري، الأمر الذي يتطلب من المبدع الثاني «الرسام» امتلاك ثقافة واسعة ومتشعبة، إلى جانب الموهبة والخبرة في التعامل مع تقانات الرسم.‏

التقنيّة المناسبة‏
ولنجاح الرسام في وضع الموتيف الجيد والناجح والمُعبّر والمواكب كقيمة تشكيليّة وتعبيريّة للنص المكتوب، لا بد له أيضاً، من اختيار التقنيّة الفنيّة المناسبة لتنفيذ رسومه التوضيحيّة بها، سواء كانت بالأبيض والأسود أو بالألوان، أو بوساطة سطح وسيط «زنك، حجر، خشب شاشة حريريّة» ... الخ. إن فهم رسام الموتيف لخواص هذه التقانات، وتملكه لها، وخبرته في التعامل معها، سيسعفه إلى حد كبير بالوصول من خلالها، إلى صوغ نصه البصري المواكب والمعبّر عن النص المكتوب، ذلك لأن الرسم التوضيحي المكرس للشعر، أو للقصة القصيرة، أو للرواية، أو للخاطرة الوجدانيّة، يجب أن يختلف تقنيّةً وحساسيّةً عن الرسم التوضيحي المكرس لموضوع تاريخي، أو توثيقي، أو علمي.‏
والرسم التوضيحي المنفذ للكتاب أو الموسوعة، هو غير الرسم المنفذ للمجلة، أو للصحيفة، وفقاً لاختلاف أنواع الورق، وطريقة فرز الألوان، ونوعيّة الطباعة. من أجل هذا، فإن فهم الرسام لكل هذه الأمور، ووقوفه على جملة المراحل التنفيذيّة التي تمر بها رسومه التوضيحيّة لتظهر في الصحيفة، أو المجلة، أو الكتاب، قضية مهمة جداً في نجاحها.‏

ولأن غالبية المتصدين لهذه المهمة من فنانينا التشكيليين العرب، لا تتوفر فيهم المقومات والخصائص المشار إليها آنفاً، تأتي رسومهم التوضيحيّة هزيلة وغير مناسبة وقاصرة عن مقاربة النص المكتوب والتعبير عنه.‏
استخفاف الرسام والمشرف‏
بمعنى آخر: لا يزال غالبية رسامي الموتيفات والمشرفين على الوسائل التي تحتضنها، في بلادنا العربيّة، يستخفون بهذا النوع من الفن التشكيلي، فلا يولونه ما يستحق من الاهتمام والتقدير، بدليل ما تطفح به كتبنا وصحفنا ومجلاتنا، من رسوم توضيحيّة مرتجلة، ضعيفة، منفذة على عجل، ومستوحاة من عنوان النص المكتوب وليس من مضمونه الذي يبقى العنوان «مهما كان بليغاً» غير قادر على التعبير عنه بأبعاده كافة، بل قد لا نكون مغالين إذا قلنا، أن هذا الجنس من الفن التشكيلي الهام، بات ملجأ لذوي المواهب الفنيّة الهزيلة من الفنانين التشكيليين، وحقل تجارب للضعفاء منهم، ما يجعل العديد من الرسوم التوضيحيّة المنشورة إلى جانب نص أدبي أو علمي، تُسيئ إليه وتقزمه بدلاً من تجميله، والتعبير عن مضمونه، والتدليل على أهميته، وجذب القارئ إليه، ذلك لأن المادة المنشورة الجيدة، تشوهها الرسوم السيئة، وتقلل من قيمتها في نظر القارئ حين وقوعه عليه، ثم أن الموتيف الفاشل والضعيف فنياً، يخل بتوازن الصفحة المنشور فيها، ويربك العناصر الفنيّة الأخرى الموجودة إلى جانبه، كالعناوين والصور وطريقة تنضيد النص، فيجعلها متنافرة بدل أن تكون متوافقة ومنسجمة. أي أنها تسيء إلى إخراج المادة، وتبعثر جهود المخرج الصحفي، وهو الطرف الثالث في هذه العملية الإبداعيّة التي يساهم في إبرازها وبلورتها إلى جانب المحرر «الكاتب» والرسام، وهي عملية مركبة يجب أن تتكامل عناصرها وتنسجم لكي تتمكن من جذب القارئ إليها، واستدراجه إلى معانيها وأفكارها.‏


علم وفن‏
من جانبٍ آخر صارت وسائط الاتصالات البصريّة المعاصرة، عملية علميّة وفنيّة متكاملة، يساهم في إنجازها، مجموعة من الخبراء والوسائط البصريّة المختلفة. وفنون الإعلام والإعلان، إحدى أهم وأبرز هذه الوسائل التي باتت تتواصل مع شرائح الناس المختلفة، أينما كانوا أو تواجدوا فوق كوكبنا الذي حولته هذه الوسائط المتطورة إلى قرية كونيّة صغيرة.‏
فإلى جانب الفنان التشكيلي المؤلف الأساس، لهذه الوسائط المُشكّلة، من رسوم وألوان وخطوط وإشارات، يوجد أيضاً المؤلف لنص الإعلان وفكرته، والمختص بعلم الأقوام والشعوب، وعالم الاجتماع، وصاحب المنتج الفكري أو الاقتصادي المراد الترويج له، والمخرج أو «المايسترو» الذي يوائم بين عناصره المختلفة، ويختار له وسائط نشره وتعميمه المناسبة الثابتة «كالصحف والمجلات والكتب واللوحات الإعلانيّة» أو المتحركة «كالسينما والتلفاز واللوحات الإعلانيّة المتحركة والحاسوب».‏
فن الغواية والتدجين‏
خواص فن الإعلان «أو الإعلام» وقدرته على تمثل الحدث السياسي أو الاجتماعي أو الفني أو الثقافي أو التوجيهي أو الترويجي التجاري، ونقل هذا الحدث إلى مفردات بصريّة مكثفة وواضحة، مثير للعين والغرائز، وبالتالي تطور وسائل ووسائط نقله إلى المتلقي: جعلت منه الفن الأقدر على التأثير والفعل والغواية والتدجين، لكافة شرائح المجتمع، خاصة بعد التطور المذهل الذي لحق بمفردات الإعلان وعناصره ووسائل تقديمه للمتلقي.‏
فبعد أن كان الإعلان مقتصراً على الملصق الجداري الصغير الحجم، والمحدود النسخ وأماكن العرض، انتقل اليوم، إلى اللوحات الكبيرة، المضاءة والمتحركة والمتنوعة شكلاً وتقنية وطريقة عرض، إضافة إلى شكله الآخر الأشد فعلاً وتأثيراً وانتشاراً المتمثل بالبث المرئي الذي تنقله إلى المتلقي أينما تواجد، وسائل الاتصال البصريّة الحديث كالسينما والتلفاز والإنترنت، والتي جعلت منه ضيفاً إجبارياً وثقيلاً أحياناً، على أعين الناس وأحاسيسهم وعقولهم وبيوتهم ومكاتبهم ووسائل تنقلهم المختلفة!!‏
واليوم، صار للدعاية والإعلان مؤسسات كبرى، لها كوادرها الفنية والتقانية الضخمة المنكبة على ابتكار الجديد والمثير والمقنع من أشكال ووسائل الدعاية والإعلان المتعددة الأغراض والأهداف. وهذه المؤسسات تتبارى وتتنافس في استقطاب مستلزمات الإعلان الناجح، من فنانين تشكيلين ومصممين وعلماء نفس وممثلين، وتتفنن في ابتكار صيغ ووسائل جديدة، للوصول إلى قناعات المتلقي وثقته، وبالتالي كسب رضا المعلن وأمواله!!‏
يرى الكاتب «محمد سيف حيدر النقيد» أن العالم يشهد منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن، ثورة تقنية هائلة، شملت كل نواحي الحياة الإنسانيّة وقد اتسعت مساحة هذه الثورة، واشتدت ضراوتها حتى غدا الفرد محاطاً في جميع أوقاته، بكل وسائل الترفيه التقانية غير القابلة للحصر، والتي وفرها له عصر التقنية الفائقة، وفي خضم هذه الثورة، شرع نموذج المجتمع المعاصر في تنميط نفسه بسرعة ليحل محل المجتمع التقليدي.‏
ويؤكد أن أهم ما يميز هذا النموذج المعاصر للمجتمع العالمي أنه مجتمع إعلامي إلكتروني، وهو بهذه الصورة النمطيّة يكسب الثقافات المحلية المعاصرة، بُعداً تقنياً، بحيث يؤطر خاماتها بوسائط إعلامية الكترونية تضمن احتواء الإنسان وتوجيهه، وربما اقتلاعه من جذوره الثقافية الأصلية، أو على أقل تقدير «قولبة» قيمه النفسيّة والاجتماعيّة.‏
ويرى أنه مع تقدم وسائط الإعلام المختلفة تقانياً، أصبحت سلطة الصورة، سواء في سلوكها الميكانيكي «المتحرك» أو الجمالي «الساكن» أكثر فاعلية وقوة، لأنها أصبحت أكثر حداثة وبهراً. لقد تحولت وسائل الإعلام اليوم إلى سلطة نافذة في حد ذاتها، وغدت الصورة التي تؤطر العمل الإعلامي المرئي «غواية» تتلذذ باستقطاب المتلقي، ومن ثم إقامة العلاقات المشروعة وغير المشروعة كافة معه!!‏
هذه الصورة بالتحديد، باتت اليوم أهم وسائل الإعلام والإعلان، وهي تفعل فعلها المشروع وغير المشروع في المتلقي وتراوغه وتدجنه محولةً إياه إلى متلقٍ عاطل وسلبي، تسكب فيه ما تريد من قيم، دون أن يتمكن من الرفض أو الاختيار.. وهذا هو الدور القديم - الجديد للإعلام والإعلان، الذي تُعتبر الصورة المتقنة شكلاً ومضموناً، أهم عوامل نجاحه، والفوز بهذه الصورة، لا بد من وجود مؤلف بصري موهوب، يقف جنباً إلى جنب، مع مؤلف الفكرة أو المضمون.‏



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق