الخميس، 23 ديسمبر 2010

الرسوم العلمية التوضيحية(المنمنمات)



في عصرنا الحاضر لا يخلو كتاب يدرس في الكليات العلمية من الرسوم العلمية التوضيحية لتبسيط العلم وشرحه للطلاب. ومن المدهش حقا أن يكون المسلمون أول من ابتدع فن الرسوم التوضيحية في التاريخ. وقد نقلته أوربا عنهم في حضارتها المعاصرة، فهذا الفن لم يكن معروفا عند الإغريق، وفي كتب الطب الإسلامي وفي المخطوطات القديمة نجد الكثير من الرسوم التي تبين لطالب العلم مهمة القضية التي تشرح له.
التعريف: وهو عبارة عن تزيين المخطوطات والكتب التاريخية والعلمية ببعض الصور التوضيحية.([1])
مفردة “منمنمة” تتصف بسعة دلالتها، فهي تعني الإنتاج الفني صغير الأبعاد، والذي يتميز بدقة الرسم والتلوين، وهو يطلق عادة علي الأعمال الملونة وغيرها من الوثائق المكتوبة المزينة بالصور أو الخط أو الهوامش المزخرفة علي الخشب والعاج والعظام والجلود والكارتون والورق والمعدن وغيرها من المواد.([2])
ويعتقد بأن مصدر كلمة “منمنمة” العربي كان مشتقا من أسم (ماني) نفسه بما عرف عنه من إرفاقه للرسوم في ثنايا النصوص التي تضمنها كتابه الروحي الذي سمي(ماني نامه) ويعني بالفارسة (كتاب ماني) الذي دغم واختزل ووطأ الآرامية لغة ماني وأهل العراق والشام قبل الفتح الإسلامي ليصبح بصيغة (منمنمة) والتي وردت الى العربية من ضمن ما ورثته من الآرامية. ولهذا السبب لا يتوفر للكلمة سند ومصدر من صلب اللغة، ولا يشيع للكلمة معنى دقيق، ولكن معناها في اللغة واللهجات الدارجة يعني الشئ الدقيق المزوق، ذا الملامح المصغرة، والذي أخذت عنه الترجمة اللاتينية(Miniature) ..([3])
  • · النشأة
تكونت في نهاية القرن السادس الهجري أول وأقدم مدرسة للتصوير الإسلامي في بلاد العراق، ومن المرجح أن هذه المدرسة نشأت في أول الأمر في شمال العراق وتخصصت في تزيين ترجمات لمؤلفات يونانية في علم الطب والطبيعة والنبات والحيوان، وكان مركزها غالبا مدينة الموصل ثم تكونت بعد ذلك في القرن السابع الهجري مدرسة تصوير أخرى في بغداد كما تكونت أيضا مدارس في ديار بكر وماردين مراكز حكم بني أرتق، ولو أن مراكز إنتاج هذه المدرسة العراقية كان في أملاك السلاجقة إلا أنها كانت عربية أكثر منها إيرانية.([4])
لذلك كان يطلق بعضهم عليها المدرسة السلجوقية وبعضهم الآخر يطلق عليها اسم بغداد، كما أطلق عليها بعض المؤلفين المدرسة العباسية، ومنهم من أطلق عليها بلاد الجزيرة(الميزوبوتامية)، أو (مابين النهرين) لأنها نشأت بين المسيحيين في بلاد الجزيرة ولا سيما الموصل، وسميت بالمدرسة العباسية لأنها نشأت وتطورت في العصر العباسي.
أما اسم المدرسة السلجوقية فجاء نسبة إلى الحكام الذين قدموا من آسيا الوسطى، وحكموا ديار الإسلام، وساد طرازهم الفني في قلب العالم الإسلامي، وشرقيه في العهد الذي ازدهرت فيه مدرسة التصوير الإسلامية.([5])
  • · أهم مميزات المنمنمات
من مميزات المنمنمات العربية و الإسلامية، أنها مسطحه ذات بعدين طول و عرض. و لم يلجأ المزوّق إلي التجسيم عن طريق رسم البعد الثالث للأشياء و الاعتماد علي خداع البصر. بل إن العنصرين الأساسيين في المنمنمة هما: الخط و البقعة اللونية، حيث يحدد الخط البقعة. كما أن التلوين اقتصر علي الكتل فقط
يحتل الإنسان مكاناً كبيراً في المنمنمات و يأتي بعده بالدرجة الثانية الحيوانات و النباتات و العمائر، و قد أعانت دقه رسم العمائر المؤرخين علي إرجاع نسبه التصويره إلي المدينة المرسوم فيها من خلال شكل الأقواس و العناصر الزخرفة التي تزينها
نلاحظ في فن المنمنمات بوضوح الخروج عن الواقعية الحرفية عند مقارنه حجوم بعض عناصر اللوحة الي العناصر الأخرى المحيطة بها، مثلاً نسبه حجم الإنسان الي العمائر، حيث يبدو الإنسان كبيراً جداً بالنسبة لها للاشاه إلي إن الإنسان هو الموضوع الرئيسي و المركزي في اللوحة، و أكثر من ذلك يحدث في أحيان كثيرة تباين في الحجم بين حجوم الإنسان في نفس التصويره فتبدو احدي الشخصيات اكبر حجماً من الأخريات للدلالة علي أهمية هذه الشخصية الاجتماعية أو السياسية او الدينية كأن يكون أميرا أو ملكاً أو شاعراً .([6])
وأبرز ما يميز هذه المنمنمات أنها واقعية تمثل حياة المجتمع العربي الإسلامي المعاصر فنرى فيها عادات الأمة وتقاليدها  وقيمها في البيت والمسجد والمكتبة والمقبرة والقرية وغيرها، فهي في هذا المجال وثائق تاريخية بالإضافة إلى قيمتها الفنية.([7])
  • · مميزات مدرسه بغداد في التصوير
كان لتقارب و تشابه الإعمال الفنية للمدرسة الواحدة علاقة كبيره بالموقع الجغرافي الذي رأت فيه النور، لذلك سميت هذه المدارس باسم مراكز هذه المواقع الجغرافية مثل مدرسه بغداد و مدرسه الموصل، و مدرسه دمشق، علي الرغم من إن قسماً كبيرا من تلك الإعمال أنتجت خارج هذه المدن الثلاث. فالموصل هي احدي كبريات المدن العراقية الواقعة  في الشمال و القريبة من الحدود التركية و السورية و اللتين ازدهر فيهما فن المنمنمات. و الموقع الجغرافي هذا أدي إلي أن تتبادل هذه المراكز تأثيراً ظهر واضحاً في النتاجات الفنية لكل منها. لذلك نلاحظ بعض التأثيرات التركية علي أعمال مدرسه الموصل حيث نري الملامح التركية بادية علي وجه الشخصيات بشكل عام. كما نري في رسومات البلاط أن السلطان يتربع علي عرش من طراز و الجمود (و هي من مميزات الفن في المرحلة الساسانيه) تميزت بها معظم نتاجات هذه المدرسة. و قد عنت هذه المدرسة بتسجيل حياه البلاط بملوكه و سلاطينه و الدائرين في فلك السلطة، التي حاولت شأنها شأن كل سلطه في كل زمان و مكان، توظيف الأدب و الفن لخدمتها و ترسيخ قواعدها. لذلك أصبحت عناصر التصوير بشخوصها و حيواناتها و نباتاتها عبارة عن عناصر زخرفيه جماليه مبتعدة عن الحياة اليومية لعامه الناس. ثم إن هذه المدرسة تمتاز ألوانها بصفائها و نقائها إذن فالأسباب التي جعلت من مدرسه بغداد أن تنفرد في خواصها و مفرداتها هو ابتعادها عن حياه السلاطين و التركيز علي الحياة العامة للناس، أضافه إلي أهم سبب هو إدخال الحرف العربي في اللوحة البغدادية دون سواها في أول الأمر، و إعطاء الفضاءات داخل اللوحة (الباكداون) مساحه اكبر إضافة إلى الاستخدامات اللونية و التي دائماً ما تشكل العلامة الأبرز لأي مدرسه، فالمدرسة البغدادية دائما ما تكون ألوانها قاتمة و خلفيات لوحاتها تميل الي الصفرة و وجه شخصوها تكسوه اللحي.([8])
أن الوجوه ذات ملامح دقيقة ومسلوبة تتخذ شكلا دائرياً، واللحى سوداء داكنة أو بيضاء، والعيون كبيرة ذات جفون بارزة تذكر بملامح الوجوه في المنحوتات السومرية والآشورية بينما تكون الحواجب مستدقة ومتقنة تمسك بخط الأنف الطويل، ثم تغطى الرؤوس بالعمائم المزركشة. أما الملابس فتكون فضفاضة مزينة بالزخارف والأشكال المرسومة بخطوط لينة متحركة، كذلك تميل الألوان إلى البساطة والدقة والبعد عن التكلف والصنعة.([9])
  • · مصادر أساليب الرسامين العرب في العصر العباسي
بعض المصورين المسلمين استمدوا بعض عناصرهم من المخطوطات المسيحية البيزنطية الهيلينية رغبة منهم في اقتباس بعض الأساليب الفنية. إلا أن أساليبهم الفنية التي استخدموها في صورهم ورثوها عن الفنون القديمة العراقية كالبابلية والأشورية والساسانية التي ظهرت في بلاد الرافدين، وبلاد الشرق الأدنى، وأضافوا إليها عناصر فريدة مبتكرة منبثقة من تقاليدهم، ومتفقة مع متطلبات عصرهم، وعناصر أخرى متسربة ومستمدة من الحضارات التي اتصلوا بها في الهند وآسيا الوسطى والصين. واستمد بعض المصورين أسلوبهم من رسم النبات والتماثيل المتحركة.([10])
  • · أشهر المنمنمات
ومن أشهر المنمنمات القديمة، رسومات “الواسطي” على مقامات الحريري؛ حيث تظهر تلك الرسومات التعديل الذاتي الذي قام به الفنّان المسلم على الأصل البيزنطي لهذا الفن، إذ ابتعد عن رسم الهالات المقدسة للأشخاص، وتحولت إلى حواف ملونة. وكذلك اهتمامه بالتفاصيل المميزة لكل شخصية مرسومة من حيث الحركة والإيماءة، بالإضافة إلى أن اختيار الواسطي للألوان واستخدامه لها استخداما ملائما من حيث كونها قيمة شكلية في ذاتها مما دعا المستشرق “بابا دوبلو” أن يقول: “ليس من قبيل المبالغة القول أن كل مصوري الإسلام كانوا فائقي البراعة في استخدام الألوان”.
وقد أتقن يحيى بن محمود الواسطي رسوم الجموع في مخطوطته، كما تمكن من التعبير عن خلجات النفوس، وأن يكون واقعيا في تمثيله للمناظر. وقد رسم الواسطي مقامات الحريري (634هـ/1237م)، وتُعرف هذه النسخة باسم “مقامات شيفر” وهي محفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس. كذلك نرى نزوعا نحو المنظور وإن كان غير تام، وأيضا اهتماما بعناصر الصورة من حيث حجم الأشخاص وتعبيراتهم المختلفة على وجوههم وحركاتهم مما يعلي من شأن الصورة في تدرجها في سلّم القيم واحتوائها على أكبر قدر من القيم، أي الانتقال من القيم التشكيلية إلى الاهتمام بالقيم التمثيلية والروحية.
وقد وصلنا العديد من المخطوطات الإسلامية لموضوعات أدبية وأسطورية أو علمية وألبومات شخصية كلها كانت تعكس في مجال التصوير والزخرفة مدارس فنّية ازدهرت في العصور الإسلامية المتتالية. ويتّضح في معظمها محاولات جادة للمصور لإبهار المشاهد من خلال تكوينات لا علاقة لها بالواقع من حيث الجمع بين الليل والنهار في الصورة الواحدة، أو الجمع بين الداخل والخارج، أو التعبير المتأنق عن العمارة الإسلامية في التصاوير من خلال رسم دقائق الزخارف أو التعبير عن قوة الحاكم أو نبله وثرائه في صور.
[11]
  • · رأي الدين الإسلامي في فن التصوير
من المؤكد أن المزاج العام للحضارة الإسلامية لم يرحب بصور الإنسان والحيوان، وخصوصا المجسمة منها، وغلب علية التجريد، اللائق بعقيدة التصوير، لا التجسيم اللائق بالوثنيات على اختلاف درجاتها.من هنا اتجه الفن “التشكيلي” في حضارتنا إلى أمور أخرى أبدع فيها أي إبداع وترك فيها آثارا رائعة الجمال. ([12])
ونجد أن المانعين للتصوير يستشهدون” بحديث ابن مسعود مرفوعا: (إن أشد الناس عذابا عند الله المصورون) .  قال النووي:(قيل هي محمولة على من فعل الصورة لتعبد، وهو صانع الأصنام ونحوها، فهذا كافر، وهو أشد عذابا، وقيل:هي فيمن قصد المعنى الذي في الحديث من مضاهاة خلق الله تعالى، واعتقد ذلك، فهذا كافر، له من العذاب ما للكفار، ويزيد عذابه بزيادة قبح كفره)”.([13])
ومن خلال الدراسة نرى أن هذه الصور الآدمية والحيوانية لم تكن للتعبد ” ولكن تعد من مظاهر الترف، فهذا من المكروهات فحسب، أما صور غير ذي الروح من الشجر والنخيل والبحار والسفن والجبال والنجوم ونحوها من المناظر الطبيعية، فلا جناح على من صورها أو اقتناها، ما لم تشغل عن طاعة أو تؤد إلى ترف فتكره”.([14])
وفي موضع آخر يوضح الدكتور يوسف القرضاوي ذلك قائلا: ” فالأرجح قصر التحريم على المجسم ، و أما صور اللوحات المسطحة على الورق ، أو الجدران ، أو الخشب و نحوها ، فأقصى ما فيها الكراهية التنزيهية”.([15])

المراجع
[1] نعمت علام، فنون الشرق الأوسط في العصور الإسلامية، القاهرة، دار المعارف، 1992،ص42
[2] باسم توفيق، مذاهب ومدارس … التصوير الإسلامي (المنمنات)، موقع  جريدة الراية على الانترنت، www.raya.com
[3] عدلي ثويني، فن المنمنمات بين التراث والحداثة، موقع المناهل الثقافي على الانترنت، www.al-manahel.net
[4] نعمت علام، مرجع السابق ص186.
[5] محمد حسين جودي، الفن العربي الإسلامي، عمان، دار المسيرة، 2007، ص175
[6] هاشم البكاء، لمحات من الفن الإسلامي فن المنمنمات و المدرسة البغدادية، مؤسسة الفكر الإسلامي، www.e-resaneh.com
[7] عادل الألوسي، روائع الفن الإسلامي، القاهرة، عالم الكتب، 2003، ص38
[8] هاشم البكاء، مرجع سابق
[9] مازن محمد علي، النمنمات رسوم مصغرة تضيء النص المكتوب،  كل العراقيين، www.kululiraq.com
[10] محمد حسين جودي، مرجع سابق، ص216
[11] بركات مراد، إبداعات الفنان المسلم في الأشكال الزخرفية، موقع مجلة حراء على الانترنت، www.hiramagazine.com
[12] يوسف القرضاوي، الإسلام والفن، بيروت، مؤسسة الرسالة، 2001، ص98
[13] يوسف القرضاوي، المرجع السابق، ص80
[14] يوسف القرضاوي، المرجع السابق، ص94-95
[15] يوسف القرضاوي، المرجع السابق، ص89

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق